الكسندر هاملتون Alexander Hamilton 5 ديسمبر، 1787 إلى أهالي ولاية نيويورك: هناك اعتراض مختلف في طبيعته عما أثير وتمت الإجابة عنه في خطابي الأخير، وهو اعتراض يمكن بدوره أن يثار ضد مبدأ تشريع الاتحاد للأفراد المواطنين في أمريكا. إذ قد يقال إن من شأن هذا أن يجعل حكومة الاتحاد أقوى مما ينبغي وقادرة على امتصاص تلك السلطات المتبقية التي قد يرى البعض أن الأنسب تركها في يدي الولايات لخدمة الأغراض المحلية. ولو وافقنا على أعرض مدى لنزعة حب السلطة التي يجوز لأي امرئ معقول أن يطلبها لنفسه، فأنا أقر، أنني أشعر بالضياع حين أسعى لأن اكتشف أي غراء يستشعره الأشخاص الذين توكل إليهم إدارة الحكومات العامة كيما يجردوا الولايات من سلطات من ذلك القبيل. إن تعليمات البوليس المحلي في الولاية، كما تبدو لي، تكبح أي وهم أو مخادعة للطموح. كما أن التجارة، والتمويل، والتفاوض، والحرب، كما تبدو أيضاً، تشمل جميع الأهداف التي قد تسحر العقول التي تستهويها مشاعر الطموح هذه؛ وجميع السلطات الضرورية لهذه الأهداف يجب، في المقام الأول، أن تركن في مستودع الحكومة الوطنية. أما إدارة القضاء الخاص فيما بين المواطنين في الولاية ذاتها، والإشراف على الزراعة، والاهتمامات الأخرى التي من طبيعة مماثلة – وباختصار.. جميع الأشياء التي من المناسب أن يقوم بها التشريع المحلي، فهي أمور لا يمكن أبداً أن تكون اهتمامات مرغوباً فيها من لدى التشريع العام. ومن ثم فإنه من غير المحتمل أن يوجد لدى المجالس الفدرالية أي ميل لأن تغتصب السلطات المتعلقة بهذه الشئون، وذلك لأن محاولة ممارسة هذه السلطات ستكون أمراً متعباً كما أنه تافه؛ ولهذا السبب فإن الاستحواذ عليها لن يسهم شيئاً في كرامة وأهمية، وألق الحكومة العامة أبداً. لكن، دعنا نقبل، ولأغراض الجدل، أن مجرد العبث وشهوة السيادة ستكون كافية لتوليد ذلك الميل؛ عند ذاك سيظل الاطمئنان إلى أن تأكيد حس الجسد الواحد لدى الممثلين الوطنيين، أو بكلمات أخرى، مواطني الولايات الكثيرة، كافياً لأن يتحكم في هوى هذه الشهية المفرطة. وسيكون دائماً من السهل على حكومات الولايات أن تتعدى على السلطات الوطنية أكثر من أن تتعدى الحكومة الوطنية على سلطات الولايات. وتعود مصداقية هذا الافتراض إلى عظم درجة النفوذ الذي ستناله حكومات الولايات عند الشعب، إذا ما أدارت شؤونه باستقامة وحكمة، بصورة عامة. وهي حال من شأنها أن تعلمنا أن هناك ضعفاً أصيلاً وملازماً في الدساتير الفدرالية. كما تعلمنا في الوقت ذاته أن آلاماً مريرة يجب أن تعاني في تنظيم تلك الدساتير بغية منحها جميع القوة التي تتمشى مع مبادئ الحرية. إن تفوق النفوذ لصالح الحكومات الخاصة سوف يتأتى جزئيا من الهيكلة الموزعة للحكومة الوطنية، ولكنه سيتأتى أساساً من طبيعة الأهداف التي سوف توجه إليها إدارات الولايات، أعني حكوماتها. وإنها لحقيقة معروفة في الطبيعة البشرية أن التعاطف ضعيف على العموم لكنه يتناسب مع البعد أو التوزع في الهدف ذاته. ووفق هذا المبدأ تجدنا نرى الرجل يرتبط بعائلته أكثر مما يرتبط بجيرانه أو بالمجتمع بصورة عامة. وفي هذا الحال فإن أهل كل ولاية سيكونون مستعدين لأن يحسّوا بانحياز أقوى لحكوماتهم المحلية مما يحسون به تجاه حكومة الاتحاد؛ ما لم يتم تدمير قوة ذلك المبدأ عن طريق إدارة اتحادية تكون أفضل بكثير من إدارة الولاية. إن هذا النزوع في القلب البشري سوف يجد له إسناداً قوياً في أمور تنظيم الدول. ذلك أن المصالح الصغيرة المتنوعة التي لا بد أن تقع ضمن إشراف الإدارة المحلية، والتي سوف تشكل روافد عديدة من النفوذ، يسري خلال كل جزء من أجزاء المجتمع – لا يمكن تشخيصها دون الدخول في تفصيل شديد الإرهاق لا طرافة فيه، يعوّض عن التعليمات التي يجب أن يوفرها. هناك حسنة عرضية يمتلكها مجال حكومات الولايات، هي وحدها كافية لوضع المسألة في ضوء واضح مقنع – وأعني الإدارة العادية للقضاء الجنائي والمدني. وهذا من بين جميع الأمور الأخرى، هو الأقوى، والأشمل، والمورد الأكثر جذباً من غيره لأن يطيعه الشعب ويلتزم به. ولكونه الحارس المباشر والظاهر المرئي لحياة الأفراد وملكيتهم، وله حسناته وعليه أخطاؤه – فهو معروض دائماً أمام أعين الناس، كما أنه هو الذي ينظم جميع المصالح الشخصية والهموم العادية التي تنبّه لها حاسية الأفراد أكثر مما تتنبه لغيرها، التي تسهم أكثر من أي ظرف آخر لأن تضغط على الناس، وتنطبع في أذهانهم، وودهم، وتقديرهم، واحترامهم للحكومة. هذا هو الملاط المكين، والذي سينشر نفسه تقريباً في جميع قنوات الحكومات الخاصة، مستقلاً عن جميع الأسباب الأخرى للنفوذ. هو الذي سيضمن لها السيطرة على مواطنيها بحيث يجعلهم في كثير من الأحيان منافسين خطرين لتلك السلطة. إن أعمال الحكومة الوطنية، بحكم وقوعها بصورة مباشرة أقل، تحت رقابة عامة الناس، سوف تجعل الفوائد المستفادة منها إنما يدركها ويهتم بها بصورة رئيسية أولئك الأشخاص المتأملون، الذين يُمعنون النظر جيداً في الأمور. أما فيما يتعلق بالمصالح الأكثر عمومية، فستكون أعمال الحكومة قادرة على أن تدخل بيوت الناس ومشاعرهم، لكنها أقل احتمالاً، نسبياً، لأن تخلق فيهم حساً اعتيادياً بالالتزام، ومشاعر نشيطة بالولاء. ولقد تم توضيح المحاكمة العقلية لهذا الموضوع بصورة كافية من جانب الممارسة وفي جميع الدساتير الفدرالية التي عرفناها، والدساتير الأخرى التي حملت شبهاً على الأقل. ومع أن النظم الإقطاعية القديمة لم تكن كونفدراليات، إذا توخينا الدقة في الكلام، إلا أنها شاركت بقدر ما في طبيعة ذلك النوع من المجتمعات. كان هناك رأس مشترك، زعيم متنفذ أو ملك امتدت سلطته إلى الأمة كلها، وعدد من التابعين الثانويين، أو الإقطاعيات. وكانت لهم أراض واسعة مخصصة لمصلحتهم، وأعداد كبيرة من أفراد الحاشية أو الأتباع الصغار المستوى، أو المعيلين، الذين كانوا يقيمون في تلك الأرض ويفلحونها على أساس الاستئجار لأجل، على أساس الولاء أو الطاعة للأشخاص الذين تسلموها منهم. وكان كل تابع كبير شبه ملك في ممتلكاته الخاصة أو إقطاعياته. أما ما ترتب على هذا الوضع فكان هو المعارضة المستمرة لسلطة الملك، والحروب المتكررة بين البارونات الكبار أو حماة الإقطاعيات الرئيسيين. وكانت سلطة رأس الدولة على العموم أضعف من أن تستطيع صيانة السلم العام أو حماية الناس ضد مظالم سادتهم المباشرين. هذه هي الفترة من تاريخ أوروبا التي يركّز المؤرخون أنها كانت فترة الفوضى الإقطاعية. وإذا صدف أن كان الملك ذا مزاج حربي، ونشيطاً ويتمتع بقدرات أرقى من معاصريه وباروناته، فإنه كان يكتسب لنفسه وزناً شخصياً ونفوذاً خاصاً. وكان هذا آنذاك يكفي للوفاء بغرض أكثر قوة وانتظاماً من المألوف. وعلى العموم، كانت قوة البارونات تفوق قوة الأمير الحاكم، بل كان سلطانه يزال بالكلية في كثير من الحالات. وعند ذاك تقام الإقطاعيات الكبيرة لتغدو دولاً مستقلة أو ولايات منفصلة. أما في الأمثلة التي تغلّب فيه الملك على تابعيه آخر الأمر فقد كان نجاحه يعود في أساسه إلى طغيان أولئك التابعين على أفراد رعاياهم. ولما كان البارونات، أو النبلاء، أنداداّ يتنافسون في عدائهم للملك، وكانوا ظلمة لعامة الناس، فقد ظلوا يخشاهم ويكرههم الطرفان، الملك والعامة. وحين أبرز الخطر المشترك، والمصلحة المشتركة للطرفين اتحادا فيما بينهما، كان في ذلك الاتحاد مصرع سيطرة الارستقراطية. ولو حافظ النبلاء، بشعور من الرحمة والعدل، على الولاء من طرف أتباعهم وتابعيهم وصانوا إخلاص هؤلاء لهم، لكانت الصراعات ما بينهم وبين الأمير قد انتهت لصالحهم هم، وعلى صورة تضييق سلطة الملك الواحد أو إزاحته. ليس هذا تأكيداً ينبني في أساسه على التأمل ولا على التخمين. فبين الأدلة الموضحة لهذه الحقيقة، والتي يمكن إثباتها، تجئ اسكتلندا مثلاً معروفاً. ذلك أن روح التوزع العشائري التي دخلت تلك المملكة منذ القديم، فوحدت بين النبلاء فيها وتابعيهم بروابط تعدل روابط قرابة الدم – جعلت الأرستقراطية الاسكتلندية نداً متفوقاً دائماً على سلطة الملك في البلاد. وقد ظل الأمر كذلك حتى جاء الاندماج مع إنكلترا، فأخضع تلك الروح العنيفة غير القابلة للانضباط، وسيّرها ضمن قواعد الخضوع والتبعية، والتي هي نظام أكثر عقلانية وأعظم قدرة من أي نظام أقيم من قبل في تلك المملكة. إن حال الحكومات المنفصلة ضمن كونفدرالية يمكن مقارنته بكل اطمئنان بحال البارونيات الإقطاعية، مع جعل الحسنة التالية لصالح الحكومات: فمن الأسباب التي سبق شرحها سوف تحوز تلك الحكومات بصورة عامة ثقة الشعب ونيّاته الطيبة؛ وبمثل هذا السند القوي سوف تكون قادرة بالفعل على أن تعارض أي اعتداء على الحكومة الوطنية. وسيكون جيداً ألاّ تكون تلك الحكومات قادرة على الوقوف نقيضاً لسلطة الحكومة الوطنية الضرورية والشرعية. أما نقاط المشابهة مع البارونيات فتتمثل في المنافسة في السلطة القابلة لأن يمارسها الطرفان؛ وفي تركيز أجزاء كبيرة من قوة المجتمع في مستودعات خاصة، في حالة ما تحت تصرف الأفراد، وفي حالة أخرى تحت تصرف التجمعات السياسية. إن مراجعة مقتضبة للأحداث التي رافقت الحكومات الكونفدرالية سوف توضح أكثر مما مضى تلك القاعدة الهامة، والتي ظل عدم الانتباه إليها مصدراً كبيراً للأخطاء السياسية التي وقعنا فيها، ووهب غيرتنا اتجاهاً إلى الجانب الخطأ. وسوف تكون هذه المراجعة موضوع بضع ورقات لاحقة. بوبليوس _______________________ - الأوراق الفيدالية/الكسندر هاملتون، جميس ماديسون، وجون جاي؛ ترجمة عمران أبو حجلة، مراجعة أحمد ظاهر- عمان: دار الفارس للنشر والتوزيع، 1996. ص 121-125. العودة للصفحة الرئيسية |