الكسندر هاملتون Alexander Hamilton 19 مارس، 1788 إلى أهالي ولاية نيويورك: إن تسيير الحكم بالمعنى العام للكلمة تشمل جميع عمليات شئونه السياسية سواء التشريعية أم التنفيذية، أم شئون القضاء، لكنها بالمعنى الخاص للكلمة، وهو المستعمل عادة – مقصورةً على تفصيلات الجانب التنفيذي التي تنحصر في نطاق عمل الدائرة التنفيذية على التخصيص. أما إدارة المفاوضات مع الأجانب، وتحضير الخطط للمالية، وجباية وإنفاق الأموال العامة بما يتفق والمخصصات العامة حسبما يتم تشريعه، والترتيبات التي تتم مراعاتها في الجيش والبحرية وتوجيه العمليات الحربية – كل هذه والشئون الأخرى ذات الطبيعة المماثلة، تشكل ما يبدو أنه المفهوم من إدارة الحكم بصورة عامة. ومن ثم، فإن الأشخاص الذين يكلفون بالتنظيم المباشر لهذه الأمور المختلفة يعتبرون مساعدين أو مفوضين من طرف القاضي الأعلى (الرئيس). وعلى هذا الأساس يتوجب أن تنبع وظائفهم من التعيين الذي يقوم به هو، من تسميته لهم وعلى الأقل، فعليهم أن يكونوا خاضعين لإشرافه. إن هذه النظرة إلى الموضوع تشير على التو إلى ذلك الارتباط الحميم بين فترة بقاء الرئيس في منصبه واستقرار نظام الإدارة. إن قلب وإزالة أثر ما فعله رئيس سابق، كثيراً ما يعتبره الرئيس اللاحق أفضل برهان يستطيع تقديمه على قدرته وجدارته، وبالإضافة إلى قوة الدفع هذه، حيث يكون التغيير قد جاء حصيلة لاختيار الشعب، فإن الشخص الذي حل محل القديم يظل تحت تهديد افتراضه أن عزل سابقه قد نشأ من كراهية الناس لقوانينه، وأنه كلما قلت أوجه مشابهته لذلك السلف زاد تقديره، كما يظن في نظر مواطنيه. وربما كانت هذه الاعتبارات وتأثيرات الثقة والارتباطات الشخصية هي التي تدفع الرئيس الجديد لإجراء تغيير في من يحتلون المناصب الفرعية في إدارته، ولن تفشل هذه الأسباب السابقة متضافرةً في إحداث عدم استقرار مشين ومدمر في الحكم. وإلى جانب إيجابية الاستمرار في الخدمة لفترة معقولة أجدني أربط ملابسات إعادة الأهلية فالاستمرار ضروري كيما يهب شاغل المنصب ميلاً وحزماً لأن يقوم بدوره بصورة جيدة. ويهب المجتمع الوقت والحرية الكافيين لتقدير اتجاه إجراءاته وقوانينه، ومن ثم لتشكيل تقدير تجريبي لصلاح تلك القوانين. وملابسات الإعادة ضرورية من أجل تمكين الشعب حين يرى سبباً للموافقة على تصرفاته، أن يبقيه مستمراً في المنصب كيما تطول فترة الاستفادة بمواهبه ومزاياه وليضمنوا للحكم حسنة استمرار نظام حكيم في الإدارة. ليس هناك ما يبدو جديراً بالاستحسان أكثر من هذا في الوهلة الأولى ولا ما أساسه أكثر فساداً عند التدقيق عن قرب، من خطة يبدو حتى الآن أنها تحظى بمدافعين محترفين عنها، وأعني نقطة استمرار الرئيس في منصبه لفترة معينة ثم إبعاده عن ذلك المنصب، إما لفترة محددة أو إلى الأبد. إن هذا الإبعاد سواء كان مؤقتاً أم دائماً، سوف يترك الآثار نفسها تقريباً، وستكون هذه الآثار في معظمها مؤذية أكثر منها مفيدة. وأحد هذه الآثار الضارة بمسألة إبعاد الرئيس هو إنقاص ما يغري بانتهاج سلوك جيد. هناك نفر قليل من الناس لا يفتر حماسهم عند إنهاء الواجب، وإن ظلوا واعين إلى أن امتياز المنصب وما يرتبط به سوف يتم التخلي عنه بعد فترة محددة – عن حماسهم لو سمح لهم بدغدغة أمل الحصول، عن جدارة واستحقاق، على الاستمرار في ذاك المنصب. هذا وضع لا خلاف عليه طالما قبل المرء أن الرغبة في نيل مكافأة تشكل دافعاً قوياً في توجيه سلوك الإنسان، أو اعتبر أن خير ضمان لإخلاص البشر هو جعل مصالحهم تتفق تمام الاتفاق مع واجبهم. فحتى حب الشهرة، وهي العاطفة المسيطرة لدى أنبل العقول، والتي تدفع المرء لأن يخطط ويقوم بالمغامرات الكبيرة والجريئة لخدمة الخير للمجموع، المغامرات التي تتطلب قدراً معتبراً من الوقت ريثما يتم إنضاجها وجعلها مكتملة، إذا استطاع أن يخدع نفسه بفكرة أنه سيسمح له أن يكمل ما بدأه – حتى هذه الفكرة سوف تعيقه عن القيام بالعمل حين يستشف أن عليه أن يغادر المشهد قبل أن يستطيع إنجاز العمل، وأن يعهد بذلك وبسمعته الخاصة إلى يدين ربما كانت غير كفؤ، أو غير ودودتين تجاه المهمة نفسها. إن أكثر ما يُنتظر من أغلب الناس، في مثل هذا الوضع، هو غلبة الشعور السلبي، عندهم، أي عدم إلحاق الضرر بدلاً من غلبة الشعور الإيجابي لديهم، أي فعل الخير. والسيئة الأخرى لتأثير إبعاد الرئيس هو دفعه إلى النظر بمرارة، إلى الاختلاس، وفي بعض الأحيان إلى اغتصاب حقوق الغير فمن شأن رجل يتصف بالجشع يصدف أن يحتل المنصب، حين ينظر إلى يوم اضطراره للتخلي عن جميع الامتيازات التي يتمتع – بها أن يحس بدافع يعسر عليه مقاومته لأن ينتقي أفضل الفرص إبان وجودها، فلا يتردد في الاستفادة القصوى من فرصة الطوارئ من غيرها لجعل ما يجنيه من المنصب المؤقت وافراً، مع أن الشخص ذاته لو توفر له مجال مختلف لظل قانعاٌ بالحقوق النظامية له وغير راغب في المخاطرة بما يترتب على إساءة استخدام الفرص المتيسرة له. عند ذاك لربما كان جشعه حارساً على جشعه نفسه. أضف إلى ذلك أن الرجل نفسه قد يكون مغروراً أو ذا طموح قدر ما هو حقود. فإذا ما استطاع أن يتوقع إطالة عمر تكريمه من خلال سلوكه الجيد فقد يتردد في أن يضحي بتشهيه لتلك الكرامات لإرضاء شهوته إلى الكسب والربح. أما والمجال ماثل أمامه لاقتراب اقتلاعه من منصبه، فمن المحتمل جداً أن يتغلب جشعه على حذره، وغروره، أو طموحه. فحتى الرجل الطموح أيضاً حين يجد نفسه يحتل قمة الترف في بلده، وينظر قدماً فيرى الحين الذي لا بد أن يهبط فيه من علياء بروزه، إلى الأبد، ثم يفكر في أنه ليس هناك جهد يبذله يستطيع أن ينقذه من عودة غير مشكورة – سوف يشتد شعوره بالإغراء لقبول انعطاف يحاول به تطويل بقائه في السلطة، عن طريق أية مغامرة شخصية ممكنة، أكثر مما لو كان لديه احتمال البقاء فيها عن طريق قيامه بواجبه. هل سيكون مما يزيد في السلام في المجتمع أو في استقرار الحكم، أن يكون هناك نصف دزينة من أشخاص سبق أن نالوا الثقة الكافية لأن يرفعهم المواطنون إلى المنصب الأعلى في الدولة، يتجولون بين المواطنين وكأنهم أشباح غير راضية عن الواقع، ويصعدون التنهدات لإحراز مكانة يقدر عليهم أن لا يحوزوها إلى الأبد! وهنالك سيئة ثالثة لتأثير إبعاد الرئيس هي حرمان المجتمع من ميزات الخبرة التي كسبها ذلك القاضي الأعلى في أثناء ممارسته لمنصبه. الخبرة أٌم الحكمة. ذاك قول مأثور يعرف صدقه الحكماء كما يعرفه البسطاء من بني البشر. فأي شيء مرغوب فيه أكثر أو هو أساسي أكثر، من توفر هذه الصفة في من يحكمون الدول؟ وفي أي موطن يكون ذلك مرغوباً فيه أو هو أساسي أكثر منه في القاضي الأعلى في الأمة؟ هل من الحكمة أن نضع هذه الصفة المرغوب فيها والأساسية أيضاً في خانة ما يحرمه الدستور، وأن نعلن أنه في اللحظة التي يتم اكتسابها فيها يغدو من يملكها مجبراً على أن يغادر المركز الذي تم فيه اكتسابها، وتم تكيفها تبعاً له؟ إن هذا، في أي حال، هو المضمون المحدد لجميع هذه التعليمات التي تستبعد الرجال من خدمة وطنهم، بمشيئة زملائهم المواطنين، بعد أن يكونوا، ومن خلال خدمتهم، قد أعدوا أنفسهم للقيام بتلك الخدمة بأعلى درجة من الإفادة لمواطنيهم. وإليك سيئة رابعة يخلفها الاستبعاد، هي نفي الرجال من مراكز ربما يكون وجودهم فيها، في حالات طارئة معينة تواجهها الدولة – هو اللحظة الحرجة الأشد ضرورة للخدمة العامة، أو السلامة العامة... ليس هنالك أمة واحدة لم تواجه في إحدى فتراتها حاجة ملحة إلى خدمات أشخاص معينين في مراكز معينة، ولربما كان من غير المبالغة أن نقول: من أجل الحفاظ على وجودها السياسي. أفليس من غير الحكمة، إذن، جعل إنكار الذات من هذا القبيل يحرم أمة من الاستفادة من مواطنيها في أمر تفرضه الأحوال والظروف الطارئة فيها؟ بدون افتراض الأهمية الشخصية للرجل، من الواضح أن إستبدال القاضي الأعلى (الرئيس)، في مطلع نشوب حرب أو أية أزمة شبيهة بذلك، برئيس آخر، حتى لو كان هذا يتمتع بالجدارة نفسها – سوف يكون في جميع الأحوال عنصراً حاسماً بالنسبة إلى المجتمع قدر ما تكون الاستعاضة بعدم الخبرة عن الخبرة، وسوف يميل إلى تفكيك مرابط عربات قطار الإدارة وتركه يتجه على عماه. وهذه سيئة خامسة أيضاً لتأثير الاستبعاد، وهي أنه سوف يعمل بصفته تدخلاً دستورياً في الاستقرار في الإدارة. فعن طريق جعل التغيير أمراً محتوماً في المنصب الأول في الأمة، يغدو إجراء تغيير في القوانين أمراً ضرورياً. فليس من المنتظر، بصورة عامة، أن يتغير الأشخاص وتبقى القوانين كما هي. العكس هو السير الطبيعي للأمور. ولا حاجة للتخوف من أن يكون هناك استقرار أكثر مما ينبغي، حينا يكون هنالك خيار للتغيير؛ ولا حاجة بنا أيضاً لأن نرغب في منع الناس من الاستمرار في منح ثقتهم إلى من يظنون أنها ستكون لديه في موضع أمين، وحيث يستطيعون، بفعل الثبات من جانبهم، أن يزيلوا المضايقات المميتة الناشئة من تقلبات المجالس وتبدلات السياسة المتغيرة. هذه بعض المساوئ التي تتولد من الأخذ بمبدأ الاستبعاد. فهي تصدق بقوة أشد على خطة الاستبعاد الدائم؛ أما حين نفكر في أن الاستبعاد الجزئي سوف يجعل تقبل الرجل من جديد، بعد فترة طويلة، أمراً مستبعداً يجب الحذر منه، فإن الملاحظات التي تم سوقها تنطبق تقريباً على الحالة الواحدة كانطباقها على الأخرى. ما هي الحسنات التي تعد بأن توازن السيئات السابقة؟ إنها تتمثل فيما يلي. أولاً: استقلال أعظم لدى الرئيس. ثانياً: ضمان أكبر للشعب. وما لم يكن الاستبعاد نهائياً، لن يكن هنالك مجال لاستنتاج الحسنة الأولى. غير أنه، حتى في تلك الحال: ألن يكون لديه هدف أبعد من منصبه الحالي آنذاك يمكن أن يضحي باستقلاله من أجله؟ أيجوز ألا تكون لديه ارتباطات، وأصدقاء، لأجلهم يمكن أن يضحي به؟ ألا يجوز أن يكون غير راغب، جراء تصرف حاسم من طرفه أن يخلق له أعداء شخصيين حين، يتصرف تحت ضغط انطباعه بأن الوقت يقترب بسرعة، وعندما يحين وصوله، تغدو "يجوز" هي "يجب" أن يتعرض لانتقامهم، وعلى أساس مساو وأرضية مساوية إن لم يكن أدنى وأحط؟ ليست هذه نقطة يسهل الحسم فيها ومعرفة ما إذا كان استقلاله سيقوى أو يضعف بفعل ترتيب مثل هذا. أما بخصوص الحسنة المفترضة الثانية، فهناك سبب أقوى لأن تراود المرء شكوك كثيرة بخصوصها. فإذا كان للاستبعاد أن يتم مرة وإلى الأبد، فإن رجلاً ذا طموح غير مدروس، منه وحده يمكن الشعور بالخوف – سوف يخضع، على كره منه، إلى حاجته لأن يأخذ إجازة إلى الأبد من منصب سبق أن غدت شهوته فيه. إن السلطة والبروز عادة متأصلة في نفسه. فإذا صدف إن كان الرجل حسن الحظ أو داهية بما فيه الكفاية لملاينة النيّة الطيبة لدى الجمهور، فإنه قد يدفعهم لأن يعتبروا اشتراطاً من هذا القبيل، كريهاً عندهم وقيداً لا مبرر له في نفوسهم، اشتراطاً وضعه من وضعه كيما يحجزهم عن حقهم في أن يمنحوا برهاناً جديداً على ولائهم إلى شخص يحبونه كثيراً. وقد يحصل أن يتم تصوير ظروف يغدو فيها اشمئزاز المواطنين، بتأييد من الطموح المحبط عند ذلك الرجل المحبوب – إنما يشكل خطراً على الحرية أكبر بكثير مما يخشى منه عن حق مثل إمكان إدامة الرئيس في المنصب بفضل الاقتراع الطوعي من مجتمع يمارس حقاً دستورياً له. إن هناك إفراطاً في النعومة في فكرة حرمان المواطنين من أن يدعموا في المنصب رجالاً أثبتوا أهليتهم بالفعل بصفتهم أشخاصاً جديرين، يراهم المواطنون يستحقون الرضا والثقة، وهاتان هما الحسنتان اللتان قد رجحتا مساوئ أكثر منهما تأكيداً وأبلغ حسماً. بوبليوس _______________________ - الأوراق الفيدالية/الكسندر هاملتون، جميس ماديسون، وجون جاي؛ ترجمة عمران أبو حجلة، مراجعة أحمد ظاهر- عمان: دار الفارس للنشر والتوزيع، 1996. ص 515-520. العودة للصفحة الرئيسية |